محاضرة. زهير أبو فارس/ نائب رئيس مجلس مفوضي الهيئة المستقلة للانتخاب في المؤتمر الدولي الثاني حول" رؤية جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين/خريطة طريق نحو دولة المواطنة وتطوير المجتمع"

A Lecture, Zuhair Abu Fares/ Deputy Chairman of the Board of Commissioners of IEC in the 2nd international conference of “The Vision of His Majesty King Abdullah II - A Roadmap towards the State of Citizenship and the Development of the Society”

محاضرة. زهير أبو فارس/ نائب رئيس مجلس مفوضي الهيئة المستقلة للانتخاب

في المؤتمر الدولي الثاني حول" رؤية جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين/خريطة طريق نحو دولة المواطنة وتطوير المجتمع"

عمان-جامعة البتراء 3/4/2019

الإصلاح السياسي في الأردن-الهيئة المستقلة للانتخاب نموذج

أصحاب المعالي والسعادة، الضيوف الأفاضل، 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

إن مسيرة الحياة السياسية للدولة الأردنية، والتي استمرت خلال قرن كامل، توصلنا إلى نتيجة أساسية، مفادها أن العلاقة بين النظام السياسي والشعب بقيت ثابتة، وهذه العلاقة لها مبادئ واضحة، أسس لها العقد الاجتماعي الأول في عشرينيات القرن الماضي، مروراً بدستور المملكة عام 1952، وحتى الميثاق الوطني عام(1991)، وهي علاقة راسخة في إطار الحكم النيابي الملكي الوراثي. 

وهذه الصيغة ما زالت اختياراً شعبياً بمحض الإرادة الحرة دونما فرض أو إكراه أو إملاء.

وخلال هذه المسيرة فقد واجهت الأردن ظروف وتحديات (وكل الدول لديها ظروفها وتحدياتها)، ولا أحد يعيش في الفراغ، بل أن الأردن مُرّ، وعبر مساره التاريخي، بمنعطفات حادة، من المملكة الأولى، وما أحاط بها من أطماع الحركة الصهيونية، مروراً بالحرب الباردة واستقطاباتها الدولية، وصولاً الى زلزال ما سميَ بالربيع العربي وارتداداته التي لا تزال تهز ارجاء واسعة من الوطن العربي. كل هذه يمكن تسميتها بالظروف، أو ان شئتم، التجربة السياسية الأردنية، التي لم تكن سهلة على الاطلاق.

لكن الأردن حسم خياره منذ نهاية الثمانيات، ليكون خياراً شعبياً ورسمياً في آن، باتجاه الديمقراطية وتنمية الحياة السياسية والمشاركة الشعبية في الحكم، باعتماد الانتخابات الحرة، وصناديق الاقتراع، تجسيداً حقيقياً لإرادة الناس الحرة في صنع القرار، الذي يهم واقعهم ومستقبلهم.

نعم، هناك دوماً ظروف وتحديات تواجه الدول والشعوب، لكن المهم كيف نجعل من هذه الظروف دافعاً نحو الإصلاح والتقدم الى الامام.

الاخوة والاخوات،

لقد اختار شعبنا بطواعية واعية الإصلاحات التدريجية المدروسة التي يسير بها واليها بخطى واثقة وبسرعة مناسبة يفرضها واقعه السياسي والاجتماعي، وتجربته الذاتية، 

دونما قفزات عدمية غير معروفة النتائج والتداعيات، وصولاً للحكومات البرلمانية المنشودة.

وعلينا هنا أن نشير الى حقيقة كيف أن الصعوبات والتحديات التي واجهت بلدنا لم تشكل عائقاً بل حافزاً امام الإنجاز التاريخي الذي تحقق والمتمثل في التقاء إرادة الإصلاح السياسي لدى القيادة والشعب.

وهنا لا بدّ لنا أن نتأمل بالروافع التي تحدد علاقة الفرد بالنظام السياسي وبالدولة بكافة مؤسساتها.

وهنا يبرز السؤال: ما الذي يؤسس لحالة وجدانية جماهرية تقدس القيم الاجتماعية النبيلة؟ وكيف يبنى الأساس المتين لسلوكيات المواطن في الدولة المدنية القوية-دولة القانون والمؤسسات والعدالة؟

إن النهج الديمقراطي يحتاج الى الحرية المسؤولة اليوم أكثر من أي يوم مضى، وفي حين يمتلئ الفضاء الرقمي بخطابات الكراهية والعنصرية والفئوية، فإن النهج الديمقراطي اليوم لا يمكن أن ينسلخ عن مفهوم " الحرية المسؤولة". هذا النهج، وحده، هو ما يكفل المشاركة الشعبية، ومراقبة أداء الدولة بكافة مؤسساتها، وهو البلسم الكفيل بشفاء المجتمع من أمراضه القاتلة، وفي المقدمة منها الفساد بكافة أشكاله والوانه.

وهذه المبادئ والتوجهات الإصلاحية تم طرحها بوضوح من قبل جلالة الملك في أوراقه النقاشية، أي أن الإرادة الشعبية التقت مع قناعة وإرادة القيادة في ضرورة هذا الإصلاح الذي يحقق للأردن الاستقرار وبناء دولة المواطنة والتقدم والنماء. 

الاخوة والاخوات،

إن انخراط الشباب في هذا المشروع الوطني الكبير، يشكل أهم عناصر الإصلاح وأدوات التغيير، في مجتمع تصل فيه نسبة الشباب (أقل من 30 سنة) إلى حوالي 70%، فهم الاقدر على صنع الفارق وترجمة التوجهات الوطنية ترجمة سليمة بما يخدم مشروع الإصلاح السياسي الوطني، مشاركين ايجابيين وليسوا متفرجين سلبيين.

وهذا ليس كلاماً على ورق، فقد عُكِسَ هذا التوجه في قوانين الانتخابات النيابية بتخفيض سن الناخب ليصبح لمن بلغ الثامنة عشرة (أي 17 سنة فما فوق)، والسماح لمن أتم سن الخامسة والعشرين الترشح للبلديات ومجالس المحافظات.

أما التحدي الاخر، وهو حاضر على أجندة جلالة الملك، كما على لائحة أولويات المواطن، فهو ضرورة وجود أحزاب سياسية فاعلة تتصدى من خلال برامجها المعلنة 

لطرح الحلول للمعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعمل على تحفيز الأجيال الشابة للمشاركة في العمل المنظم.

وهنا نتساءل وضمن واقعنا الحالي: ايهما يسبق تنمية الحياة السياسية، بناء الحزب لبناء الكتل البرلمانية، أم العكس؟ وهو تساؤل أتركه لكم لمزيد من التفكير والحوار.

من جهة أخرى فان تنمية الحياة السياسية والإصلاحات الشاملة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، تحوز على ثقة الشعب، تديرها وتشرف عليها هيئات دستورية مستقلة، بعيداً عن أي تدخل أو تأثير.

وضمن هذا التوجه الإصلاحي تم في بلادنا تأسيس الهيئة المستقلة للانتخاب وفق نص دستوري (المادة 67/2 من الدستور الأردني عام 2011)، وهي هيئة مستقلة تماماً ولا سلطان عليها إلا القانون. وهذا مثالٌ آخر، على الدعم المباشر لرأس الهرم السياسي في بلادنا لاستقلالية الانتخابات والهيئة التي تديرها، وكيف أن الحكومة باتت في خدمة العملية الانتخابية الحرة والنزيهة، وهذا فعلاً بالغ الأهمية، ويجعل من عملية الإصلاح السياسي حالة شعبية معاشه. 

كما أن المتابع الموضوعي لما قامت به الهيئة، يلحظ أنها استطاعت خلال هذه السنوات القليلة نسبيا (منذ6/5/2012)، أن تستعيد قدراً كبيراً من ثقة الناخب الأردني في العملية الديمقراطية، والتي تتعزز مع كل عملية انتخابية، وقد تجاوزنا الآن الحديث عن الثقة بالانتخابات إلى مرحلة تطوير العملية الانتخابية، ومعها العملية السياسية، وحشد طاقات كافة الشركاء في بوتقة الدورة الانتخابية بكافة مراحلها.

والاهم، ولكم أن تقرأوا ما يكتبه أولادنا وبناتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، فما عادت مشكلة الفرد مع الدولة ومؤسساتها مرتبطة بالثقة في العملية الانتخابية، بل بات شبابنا ينظرون بعين ومنظار النقد والتقييم لمخرجات الانتخابات، وللعملية السياسية نفسها. وأكبر دليل على ذلك طريقة تفاعلهم مع المجالس النيابية، التي سقطت عنها كلمة التزوير، وباتت تبرز لدى شبابنا الأسئلة السياسية وقضايا البرامج والأداء، وهي الاعمق والأهم، أي أن الكرة انتقلت الى ملعب الجماهير لتحديد خياراتهم التي تخدم مصالحهم الحقيقية. 

الحضور الأعزاء،

وبعد هذا العرض يمكن القول، بأن الحالة الأردنية المتميزة هي ظاهرة سياسية واجتماعية فريدة في المنطقة، ونحن نزعم أن سّر نجاح هذا النموذج الأردني يقوم على ثلاث قواعد أساسية:

الأولى: فلسفة النظام السياسي، والمتمثلة في أنسنة الحكم، واحترام حقوق الانسان، وهي قيم إنسانية تفوق في قوتها أية ترتيبات أو إجراءات أمنية مهما كانت.

الثانية: وحدة المجتمع بكافة مكوناته، مع احترام الخصوصيات الفرعية لهذه المكونات، في إطار الدولة الأردنية ونظامها السياسي، الذي يشكل العامل الأهم في توحيد الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية والفكرية والدينية.

الثالثة: الهوية الوطنية الأردنية الجامعة بكامل عناصرها، والتي تطورت جنباً الى جنب مع تطور الدولة الأردنية نفسها عبر مسارها التاريخي، وصولاً الى صيرورتها الحالية الراسخة.

وما تجدر إليه هنا، هو أن الوطنية الأردنية ومنذ مؤتمرها الوطني عام1928، والميثاق الوطني الأردني الأول، لم تكن يوماً عصبية أو فئوية أو انعزالية، بل كانت دائماً الجامعة لكل مكوناتها، وبقيت العنوان والمحرك والموجه لبوصلة مجتمعنا في أصعب الظروف وأكثرها قساوة.

الأخوة والأخوات، 

إن داء الأردن، هم أولئك الذين لا يريدون له أن يخرج من هيمنة نفوذهم وامتيازاتهم، إن داء الأردن في من لا ينوون الخروج على مصالحهم الذاتية الضيقة وولاءاتهم الفرعية؛

إن داء الأردن في البعض منا، ممن يرفضون الديموقراطية عندما تأتيهم بما لا يبغون.

أما دواؤنا، فيكمن في الإصلاح؛

دواؤنا في التدرج في العلاج، فهو خير من الصدمة؛

دواؤنا في التغيير الجذري في مفهومنا للديمقراطية وقبول الأساس الناظم لها..

إن ما يحتاجه الأردن اليوم، هو الديمقراطية التي لا تغتال الشخصيات؛

الأردن اليوم بحاجة للديموقراطية التي لا تُجّرف النخب الاجتماعية والسياسية والفكرية؛

الديموقراطية التي لا تمارس إرهاب الموقف على الأصوات التي تنادى بالإصلاح العقلاني؛ ديموقراطية تخرج البلاد من أزمتها الخانقة نحو مستقبل نتركه لأحفادنا؛

ديموقراطية لا تخون الثوابت وتماسك العلاقة العضوية بين الشعب وقيادته..

كما أن طريق الإصلاح هو طريق القضاء على الفساد واستباحة المال العام؛ طريق مجابهة الولاءات الجهوية على حساب الولاء للدولة؛ واعتقد أن هذا ما عناه جلالة الملك في أحاديثه، ولقاءاته المتكررة..

واخيراً، فإن التحديات التي تواجه الأردن ستزيده قوة وثباتاً، هنيئاً لعمان، فهي الأقرب دائماً إلى القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، وهنيئاً للإرادة الشعبية، التي تجد حليفها في قيادتها.